جزرة بِلادي ، أقصوصةُ ستروى كثيراً !
الأربعاء يوليو 02, 2014 5:43 pm
+ " سُوريا هِي بلادنا ،
لا داعي لأن تجري فينا دماؤها لتكون أصلنا ،
يكفينا أنّها تشاركنا أصلاً بشرياً واحدا ! "
- -
قَالت :
لَم أكن مطالبةً بالكثير أبداً ،
كَانت أكبر أحلامِي أن أنشئ عائلةً صغيرة ،
فامتلكتها و كما أردت تماماً ،
زوج محبٌ و أبٌ حانٍ ،
طفلان صَغيران أحملهما بين يدي في صغرهما ،
أقبلهما كُل مساءٍ ، و أصُبح عليهما كل صباح ،
أهمس لهما في أكثر لحظاتهما ضعفاً بأنني سأكون دوماً بالقرب ،
أقف دوماً بصفهما في مفترق الطرق ، أحاول ارشادهما للصواب لكي لا أرى أحدهما يتعثر ،
أمسك بيديهما عند عبور الشارع خوفاً من أن يمسهما ضررٌ لا أكون قادرةً على احتماله ،
أدافع عنهما أمام كل شر ، و أدفعهما لكل خير ،
كَانت تلك اهتماماتي ،
أن أدللهما كما أشاء دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على منعي ،
فهم أطفالي أنا ، و وُضِعت يـآء الملكية هناك لسبب ،
،.
وَ من ثّم جاء يومٌ لَم يكن في الحسبان ،
يومٌ أخذ مني أحلامي ، صغيرةً كانت أم كبيرة ،
يومٌ أخذ مني كُل شيء ، ولكنه لم يأخذني بعد ،
في اليوم الخامس عشر من شهر مارس بدأت حياتي بالانهيار ،
كَان ذا اليوم هُو اليوم الذي قرر فيه شعب دولتي الانقلاب على قائدهم ،
بحثاً عمّا يلقبونه بالـ حرية ،
لم أكن أعي في السياسة كثيراً ،
ولكنني كُنت أعلم ما معنى الظلم ، و أخبروني بأن تلك الكلمة كانت معنىً مضاداً له ،
كانت المخططات تخطط في حينا قبل ذا اليوم بعدة أسابيع ، زوجي كَان شخصاً اندفاعياً ثورياً محباً للدفاع عن القيم ،
فكان من أول المشتركين من حينا ، كَانت الخطط تعقد في الشارع المقابل لمنزلي ،
كنت أنا و نسوة الحي نختبئ خلف الأبواب نتنصت على أحاديثهم بكل سعادة ،
سننتصر على الظالم ، و سننشئ وطناً أفضل لأبنائنا ،
كَانت بداية ثورتنا حالمةً جداً ، كل أعلامنا و احتجاجاتنا لَم تكن سوى أقمشةٍ كتبنا عليها أحلاماً ننتوي تحقيقها ،
أحلاماً نأمل في أن نجعلها واقعاً نحياه ،
وَ من ثم أتى اليوم الـ خامس و العشرين من شهر أبريل ،
كَان هذا تاريخ أول يومٍ بدأت فيه عمليات الجيش العسكرية ،
كَان ذَا أول يومٍ نعي فيه حرباً بدأناها ، أول يومٍ تبكي فيه أمٌ ابنها ،
أول يومٍ يبكي فيه فتىً وفاة أبيه بطلقة رصاصٍ اخترقت صدره ،
أول يومٍ بدأت فيه حربنا ،
كَان زوجي حانقاً جداً ، لما حدث ،
واصل إخباري طيلة ذلك الأسبوع عن حلمه الذي سيحققه إكراماً لجثثهم ،
و أنه هو و من معه سيجعلون وفاة هؤلاء الأشخاص شيئاً يذكر للأبد ،
كُنت خائفةً حينها ، ولكنني كُنت طموحةً جداً ،
كنت أودع زوجي و ابني كل صباحٍ بابتسامة مرتعدة ،
و أرحب بهم كل مساءٍ بسعادةٍ غامرة ، بدمعٍ يتساقط رغماً عني ،
فقد عادوا إليّ سالمين ،
حتى ابنتي مع صغر سنها إلا أنّها كانت واعيةً لما يحدث ،
كانت تركض لأبيها كل صباح تودعه بابتسامة و كأنّها عالمةٌ بأنّه سيذهب لينشئ لها وطناً جديداً ،
مَضت الأشهر على ذات الحال ، نصحوا كل يومٍ على صوت طلقات الرصاص ،
و نغفوا عليها أيضاً ، تكاثر عدد القتلى ،
فحَسبما أشاع الإعلام ، في شهر يوليو ،
بات عدد القتلى في الأسبوع 300 قتيل ،
أي ثلاث مئة عائلةٍ تبكي فقداها كل يوم ،
و لم تعد ثورتنا ثورةً قوية ،
و إنّما ثورةٌ ثائرة ، تبحث عمّن قَام بقتل ثوّارها لتلتهمه ،
بلغ عدد القتلى في حينا عدداً ليس بقليل ، صوت نواح الأمهات بات يتعالى خلف كل باب ،
و بت أغفو كل يومٍ آملةً بأن لا أكون يوماً في محل إحداهن ،
،.
كُنت أراني محظوظةً جداً ،
لَم أفقد أياً من عائلتي بعد ، كُنت خائفةً جداً من ذلك ،
كُنت أواصل محادثة زوجي محاولةً إرغامه على الانسحاب ، فلم تعد هذه حرباً لما هو منافٍ للظلم ،
بل أصبحت حرب إثباتٍ لظلمٍ عشناه منذ القدم ، و لم أعد أتمنى أن أكون جزءاً منها ،
هي حربنا ، هي حرب شعبنا ، و ستنتصر و أنا واثقةٌ من ذلك ،
ولكنني لن أنتظر ألى أن يخلو موطني من المواطنين لأشعر بفرحة الانتصار ،
لم اعد أريد تلك الفرحة ، كل ما أريده هو أمناً و آماناً !
،,
مضى عامٌ على بداية كل شيء ،
لم تعد هممنا كما كانت حين بدأنا ،
انقسم معظم من حولي الى فاقدين و مفقودين ،
وَ لم يكن بوسعنا القيام بأي شيءٍ سوى البقاء في منازلنا ،
نحتضن من تبقى لنا من الأبناء و نواصل الدعاء لمن هم بالخارج بالعيش ،
حتّى جاء اليوم السادس و العشرون من مايو ،
كَان زوجي قد أخذ طفليّ معه خارجاً ليتجرع منهم بعضاً من الأمل و روح الحياة ،
كُنت نائمةً حِين أيقظتني صرخات العديد من أمهات الحي المفاجئة ،
نهضتُ بسرعةٍ و اتجهت الى باب المنزل و إذا بأحدهم يطرقه بقوةٍ ،
فتحت الباب لأجد ابن جارتي يبكي و يرتعد أمامي ،
سألته : ما بك ي بني ؟
- قتلوه ي خالة ..
- قتلوا من ي عزيزي ؟!
- قتلوه ، أردوه برصاصةٍ أمام الملأ
خفت عندها كثيراً ، خشيت أن يكون أباه من أُردي ،
جلست بجانبه و احتضنته بقوة ،
ولكنه كان يحاول دفعي بشتى الطرق ،
سألني بصوتٍ تملؤه العبرة : ألاتريدين رؤيته ؟
- من تقصد ي عزيزي ؟
- ابنك ي خالة
صدمت حينها حدّ أن قلبي رفض أن يشعر بتلك الكلمات ،
ركضت نحو صوت الطلقات بصمتٍ تام ،
حتّى وصلت الى حيث حدث ما حدث ،
كَانت الأرض ممتلئةً بالجثث ،
العديد من الأطفال القتلى ، و العديد من الأمهات النائحات ،
لم أكترث حينها ، كنت أبحث عن ابني و فقط ، بت أجول بين الجثث ،
أين هو ي ترى ،
وجدته ، نعم ! هاهو ذا !
بُني ! بُني أجبني !"
بُني ، أرجوك أجبني ،
بُني ، لِم تأبى الإجابة علي ؟!
أعلم بأنني كُنت أماً سيئة ، لم يكن من المفترض أن أتركك ترحل مع أبيك أبداً ،
ولكن هلّا غفرت لي و حادثتني ؟
أعدك بأنني لن أخطئ مجدداً ، سأكون أماً أفضل يا بني ،
سأسمح لك بالذهاب إلى منزل صديقك حِين تشاء ،
وَ لَن أمنعك من مشاهدة التلفاز مساءً ،
و سأروي لك قصتك المفضلة كل ليلة ،
أعدك يا بُني ، فقط أجبني ، و سأكون لك ما تشاء !"
أدركت حينها بأنه لن يعود ،
احتضنت ما تبقى لي منه ، احتضنت جثته و انفجرت بالبكاء ،
أتت إليّ جارتي ، و بدأت بمحاولة تهوين الأمر علي ،
أخبرتني بأن لا أسخط ولا أجزع ،
أن ربنا فوق كل سماءٍ ولن يخذلنا ، أنه هو أعلم بحالنا ،
و أنه سيكتب لنا ما فيه خيرٌ لنا ،
جاء عندها رجالٌ من الحي المجاور حاملين بقايا جثة رجلٍ لم يستطيعوا التعرف عليه ،
طلبوا منّا أن نحاول التعرف عليه ، ذهبت عندها لأراه ، كَان يصعُب التأمل في ملامحه ،
مما جعل أمر التعرف عليه صعباً جداً ، ولكنني شعرت بوخزٍ في قلبي يخبرنني بأنني أعرف هذا الرجل مسبقاً ،
نعم ! لقد رأيت هذا البنطال من قبل ،
وهذه العينين ليستا غريبتين علي ،
كلا ! أرجوك يا إلهي أن أكون مخطئة ،
كم أتمنى أنني أتوهم ، و أن ما يدور في عقلي الآن ليس واقعاً أبداً ،
أدخلت يدي في جيبه و إذا بي قد وجدت صورة طفلينا في حديقة المنزل ،
نعم إنه هو ! هذا هو زوجي !
حينها جاء أحد رجال الثورة و بدأ الحديث بصوتٍ عال :
" يؤسفني حقاً أن أخبركم بأنّا قد فقدنا أحد أهم أعضائنا اليوم ،
كان شخصاً .. كان شخصاً قوياً جداً ، يزرع الأمل في حقول اليأس ،
و يبدأ الصبر في لحظات الجزع ، كان شخصاً مختلفاً جداً ،
ولكنه توفي ، فلنجعل لوفاته سبباً "
حينها لم تعد قدماي قادرةً على حملي ،
فسقطت على الأرض ، و بدأ الناس بالهتاف لحديثه ،
و أجهشت أنا بالبكاء وحيدة ،
لا أحد منهم يأبه لزوجي ، لا أحد يكترث لوفاته عداي ،
فقد علمتهم كثرة الفقد أن النصر هو الأهم ،
علمتهم كثرة الفقد أن سبب وفاة القلوب هو إحساسها ،
علمتهم أن الفقد يؤلم ، و أن البكاء له كان أشد ألماً !
،.
في ذلك اليوم ، وُضعت ابنتي في قائمة المفقودين ،
و وضع ابني و زوجي في قائمة القتلى الطويلة جداً ،
مازلت إلى يومنا ذا مقتنعةً بأن الشعب سينتصر ،
أن الظالم سيُقتل ، و أن دمائه ستسفك ،
وَ لكنني فقط أخشى علينا من حلمٍ تمنيناه ولم يتحقق ،
حُلمٍ كتبناه على أقمشةٍ تظاهرنا بها يومياً
" نُريد وطناً أفضل لأبنائنا "
فرحل الأبناء وَ مَات الوطن !
،.
+ كان زوجي يخبرني بأنه سيجعل من وفاة القتلى شيئاً يذكر على مر السنين ،
و هاهو الآن سيذكر و في ذات الخبر معهم هو و العديد من الباقين !
+ اليَوم سأنضم إلى العديد من الرجال خارجاً ،
س أتعلم التصويب و إطلاق الرصاص ، فقد علمني واقعي بأن البشر لن يتواجدوا لبعضهم حين الحاجة إلا لحاجة ،
علمني واقعي بأن الحكومات ستصمت لظلمنا إلى أن يمسّهم ،
علمني واقعي أن الشعب السوري تُرك وحيداً في مجزرةٍ تاريخية ،
+ ترى ماذا سيكون عُذركم لأبنائكم حين يسألونكم عمّا حدث لبلادي ؟
ماذا ستجيبون إن سألوكم أين كنتم يومها ؟
بِربكم أي عُذرٍ سـ تختلقون ؟!
لا داعي لأن تجري فينا دماؤها لتكون أصلنا ،
يكفينا أنّها تشاركنا أصلاً بشرياً واحدا ! "
- -
قَالت :
لَم أكن مطالبةً بالكثير أبداً ،
كَانت أكبر أحلامِي أن أنشئ عائلةً صغيرة ،
فامتلكتها و كما أردت تماماً ،
زوج محبٌ و أبٌ حانٍ ،
طفلان صَغيران أحملهما بين يدي في صغرهما ،
أقبلهما كُل مساءٍ ، و أصُبح عليهما كل صباح ،
أهمس لهما في أكثر لحظاتهما ضعفاً بأنني سأكون دوماً بالقرب ،
أقف دوماً بصفهما في مفترق الطرق ، أحاول ارشادهما للصواب لكي لا أرى أحدهما يتعثر ،
أمسك بيديهما عند عبور الشارع خوفاً من أن يمسهما ضررٌ لا أكون قادرةً على احتماله ،
أدافع عنهما أمام كل شر ، و أدفعهما لكل خير ،
كَانت تلك اهتماماتي ،
أن أدللهما كما أشاء دون أن يمتلك أحدٌ القدرة على منعي ،
فهم أطفالي أنا ، و وُضِعت يـآء الملكية هناك لسبب ،
،.
وَ من ثّم جاء يومٌ لَم يكن في الحسبان ،
يومٌ أخذ مني أحلامي ، صغيرةً كانت أم كبيرة ،
يومٌ أخذ مني كُل شيء ، ولكنه لم يأخذني بعد ،
في اليوم الخامس عشر من شهر مارس بدأت حياتي بالانهيار ،
كَان ذا اليوم هُو اليوم الذي قرر فيه شعب دولتي الانقلاب على قائدهم ،
بحثاً عمّا يلقبونه بالـ حرية ،
لم أكن أعي في السياسة كثيراً ،
ولكنني كُنت أعلم ما معنى الظلم ، و أخبروني بأن تلك الكلمة كانت معنىً مضاداً له ،
كانت المخططات تخطط في حينا قبل ذا اليوم بعدة أسابيع ، زوجي كَان شخصاً اندفاعياً ثورياً محباً للدفاع عن القيم ،
فكان من أول المشتركين من حينا ، كَانت الخطط تعقد في الشارع المقابل لمنزلي ،
كنت أنا و نسوة الحي نختبئ خلف الأبواب نتنصت على أحاديثهم بكل سعادة ،
سننتصر على الظالم ، و سننشئ وطناً أفضل لأبنائنا ،
كَانت بداية ثورتنا حالمةً جداً ، كل أعلامنا و احتجاجاتنا لَم تكن سوى أقمشةٍ كتبنا عليها أحلاماً ننتوي تحقيقها ،
أحلاماً نأمل في أن نجعلها واقعاً نحياه ،
وَ من ثم أتى اليوم الـ خامس و العشرين من شهر أبريل ،
كَان هذا تاريخ أول يومٍ بدأت فيه عمليات الجيش العسكرية ،
كَان ذَا أول يومٍ نعي فيه حرباً بدأناها ، أول يومٍ تبكي فيه أمٌ ابنها ،
أول يومٍ يبكي فيه فتىً وفاة أبيه بطلقة رصاصٍ اخترقت صدره ،
أول يومٍ بدأت فيه حربنا ،
كَان زوجي حانقاً جداً ، لما حدث ،
واصل إخباري طيلة ذلك الأسبوع عن حلمه الذي سيحققه إكراماً لجثثهم ،
و أنه هو و من معه سيجعلون وفاة هؤلاء الأشخاص شيئاً يذكر للأبد ،
كُنت خائفةً حينها ، ولكنني كُنت طموحةً جداً ،
كنت أودع زوجي و ابني كل صباحٍ بابتسامة مرتعدة ،
و أرحب بهم كل مساءٍ بسعادةٍ غامرة ، بدمعٍ يتساقط رغماً عني ،
فقد عادوا إليّ سالمين ،
حتى ابنتي مع صغر سنها إلا أنّها كانت واعيةً لما يحدث ،
كانت تركض لأبيها كل صباح تودعه بابتسامة و كأنّها عالمةٌ بأنّه سيذهب لينشئ لها وطناً جديداً ،
مَضت الأشهر على ذات الحال ، نصحوا كل يومٍ على صوت طلقات الرصاص ،
و نغفوا عليها أيضاً ، تكاثر عدد القتلى ،
فحَسبما أشاع الإعلام ، في شهر يوليو ،
بات عدد القتلى في الأسبوع 300 قتيل ،
أي ثلاث مئة عائلةٍ تبكي فقداها كل يوم ،
و لم تعد ثورتنا ثورةً قوية ،
و إنّما ثورةٌ ثائرة ، تبحث عمّن قَام بقتل ثوّارها لتلتهمه ،
بلغ عدد القتلى في حينا عدداً ليس بقليل ، صوت نواح الأمهات بات يتعالى خلف كل باب ،
و بت أغفو كل يومٍ آملةً بأن لا أكون يوماً في محل إحداهن ،
،.
كُنت أراني محظوظةً جداً ،
لَم أفقد أياً من عائلتي بعد ، كُنت خائفةً جداً من ذلك ،
كُنت أواصل محادثة زوجي محاولةً إرغامه على الانسحاب ، فلم تعد هذه حرباً لما هو منافٍ للظلم ،
بل أصبحت حرب إثباتٍ لظلمٍ عشناه منذ القدم ، و لم أعد أتمنى أن أكون جزءاً منها ،
هي حربنا ، هي حرب شعبنا ، و ستنتصر و أنا واثقةٌ من ذلك ،
ولكنني لن أنتظر ألى أن يخلو موطني من المواطنين لأشعر بفرحة الانتصار ،
لم اعد أريد تلك الفرحة ، كل ما أريده هو أمناً و آماناً !
،,
مضى عامٌ على بداية كل شيء ،
لم تعد هممنا كما كانت حين بدأنا ،
انقسم معظم من حولي الى فاقدين و مفقودين ،
وَ لم يكن بوسعنا القيام بأي شيءٍ سوى البقاء في منازلنا ،
نحتضن من تبقى لنا من الأبناء و نواصل الدعاء لمن هم بالخارج بالعيش ،
حتّى جاء اليوم السادس و العشرون من مايو ،
كَان زوجي قد أخذ طفليّ معه خارجاً ليتجرع منهم بعضاً من الأمل و روح الحياة ،
كُنت نائمةً حِين أيقظتني صرخات العديد من أمهات الحي المفاجئة ،
نهضتُ بسرعةٍ و اتجهت الى باب المنزل و إذا بأحدهم يطرقه بقوةٍ ،
فتحت الباب لأجد ابن جارتي يبكي و يرتعد أمامي ،
سألته : ما بك ي بني ؟
- قتلوه ي خالة ..
- قتلوا من ي عزيزي ؟!
- قتلوه ، أردوه برصاصةٍ أمام الملأ
خفت عندها كثيراً ، خشيت أن يكون أباه من أُردي ،
جلست بجانبه و احتضنته بقوة ،
ولكنه كان يحاول دفعي بشتى الطرق ،
سألني بصوتٍ تملؤه العبرة : ألاتريدين رؤيته ؟
- من تقصد ي عزيزي ؟
- ابنك ي خالة
صدمت حينها حدّ أن قلبي رفض أن يشعر بتلك الكلمات ،
ركضت نحو صوت الطلقات بصمتٍ تام ،
حتّى وصلت الى حيث حدث ما حدث ،
كَانت الأرض ممتلئةً بالجثث ،
العديد من الأطفال القتلى ، و العديد من الأمهات النائحات ،
لم أكترث حينها ، كنت أبحث عن ابني و فقط ، بت أجول بين الجثث ،
أين هو ي ترى ،
وجدته ، نعم ! هاهو ذا !
بُني ! بُني أجبني !"
بُني ، أرجوك أجبني ،
بُني ، لِم تأبى الإجابة علي ؟!
أعلم بأنني كُنت أماً سيئة ، لم يكن من المفترض أن أتركك ترحل مع أبيك أبداً ،
ولكن هلّا غفرت لي و حادثتني ؟
أعدك بأنني لن أخطئ مجدداً ، سأكون أماً أفضل يا بني ،
سأسمح لك بالذهاب إلى منزل صديقك حِين تشاء ،
وَ لَن أمنعك من مشاهدة التلفاز مساءً ،
و سأروي لك قصتك المفضلة كل ليلة ،
أعدك يا بُني ، فقط أجبني ، و سأكون لك ما تشاء !"
أدركت حينها بأنه لن يعود ،
احتضنت ما تبقى لي منه ، احتضنت جثته و انفجرت بالبكاء ،
أتت إليّ جارتي ، و بدأت بمحاولة تهوين الأمر علي ،
أخبرتني بأن لا أسخط ولا أجزع ،
أن ربنا فوق كل سماءٍ ولن يخذلنا ، أنه هو أعلم بحالنا ،
و أنه سيكتب لنا ما فيه خيرٌ لنا ،
جاء عندها رجالٌ من الحي المجاور حاملين بقايا جثة رجلٍ لم يستطيعوا التعرف عليه ،
طلبوا منّا أن نحاول التعرف عليه ، ذهبت عندها لأراه ، كَان يصعُب التأمل في ملامحه ،
مما جعل أمر التعرف عليه صعباً جداً ، ولكنني شعرت بوخزٍ في قلبي يخبرنني بأنني أعرف هذا الرجل مسبقاً ،
نعم ! لقد رأيت هذا البنطال من قبل ،
وهذه العينين ليستا غريبتين علي ،
كلا ! أرجوك يا إلهي أن أكون مخطئة ،
كم أتمنى أنني أتوهم ، و أن ما يدور في عقلي الآن ليس واقعاً أبداً ،
أدخلت يدي في جيبه و إذا بي قد وجدت صورة طفلينا في حديقة المنزل ،
نعم إنه هو ! هذا هو زوجي !
حينها جاء أحد رجال الثورة و بدأ الحديث بصوتٍ عال :
" يؤسفني حقاً أن أخبركم بأنّا قد فقدنا أحد أهم أعضائنا اليوم ،
كان شخصاً .. كان شخصاً قوياً جداً ، يزرع الأمل في حقول اليأس ،
و يبدأ الصبر في لحظات الجزع ، كان شخصاً مختلفاً جداً ،
ولكنه توفي ، فلنجعل لوفاته سبباً "
حينها لم تعد قدماي قادرةً على حملي ،
فسقطت على الأرض ، و بدأ الناس بالهتاف لحديثه ،
و أجهشت أنا بالبكاء وحيدة ،
لا أحد منهم يأبه لزوجي ، لا أحد يكترث لوفاته عداي ،
فقد علمتهم كثرة الفقد أن النصر هو الأهم ،
علمتهم كثرة الفقد أن سبب وفاة القلوب هو إحساسها ،
علمتهم أن الفقد يؤلم ، و أن البكاء له كان أشد ألماً !
،.
في ذلك اليوم ، وُضعت ابنتي في قائمة المفقودين ،
و وضع ابني و زوجي في قائمة القتلى الطويلة جداً ،
مازلت إلى يومنا ذا مقتنعةً بأن الشعب سينتصر ،
أن الظالم سيُقتل ، و أن دمائه ستسفك ،
وَ لكنني فقط أخشى علينا من حلمٍ تمنيناه ولم يتحقق ،
حُلمٍ كتبناه على أقمشةٍ تظاهرنا بها يومياً
" نُريد وطناً أفضل لأبنائنا "
فرحل الأبناء وَ مَات الوطن !
،.
+ كان زوجي يخبرني بأنه سيجعل من وفاة القتلى شيئاً يذكر على مر السنين ،
و هاهو الآن سيذكر و في ذات الخبر معهم هو و العديد من الباقين !
+ اليَوم سأنضم إلى العديد من الرجال خارجاً ،
س أتعلم التصويب و إطلاق الرصاص ، فقد علمني واقعي بأن البشر لن يتواجدوا لبعضهم حين الحاجة إلا لحاجة ،
علمني واقعي بأن الحكومات ستصمت لظلمنا إلى أن يمسّهم ،
علمني واقعي أن الشعب السوري تُرك وحيداً في مجزرةٍ تاريخية ،
+ ترى ماذا سيكون عُذركم لأبنائكم حين يسألونكم عمّا حدث لبلادي ؟
ماذا ستجيبون إن سألوكم أين كنتم يومها ؟
بِربكم أي عُذرٍ سـ تختلقون ؟!
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى